لماذا سمي المتنبي بهذا الاسم؟ تختَلفُ الأقوال في سبب تسمية المُتنبّي باسمه هذا، فقد قيل في ذلك الآتي: لُقِّب المتنبّي بهذا الّلقب لما قيل عنه من ادّعاء النبّوة في شبابه، وقد لقيَ عِقاب ادّعائه من والي حمص فسُجِن؛[٢] إلّا أنّ هذه الرواية مُلفّقة لا صحّة لها، وقد وُضعت بعد زمنٍ من وفاة المتنبّي بحسب الأديب المصري أبو فهرٍ محمود محمّد شاكر، الذي تتبع روايات النبوة كلها.[٣] لُقِّب المتنبّي بهذا الّلقب لما وردَ عنه من ورعٍ في خُلقه، فقد كان آخذاً نفسه بالجدّ ومُنصرفاً للعلم مبتعداً عن الفواحش، وقد حظيَ بمنزلةٍ عظيمة عند عُلماء الأدب واللغة والنحو؛ أمثال الربعي وابن جني وأبي علي الفارسي، وقد كان مُكثراً من ذِكر الأنبياء في شعره، مُشبِّها نفسه بهم، ومُقارناً أخلاقَ من يمدحهم بأخلاقهم،[٣] ومن ذلك قوله عن نفسه:[٤] مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـه غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ وردَ عن أبي علاءٍ المعرّي قوله في كتابه معجز أحمد أنّ المُتنبّي لُقّب بهذا اللقب نسبة إلى النَبْوَة، ومعناها المكانُ المرتفع؛ إشارةً لرفعة شِعره وعُلوّه لا إشارةً لادّعائه النبوّة.[٢] حياة المتنبي كانت حياة المتنبي زاخرة بالمحطات والمراحل التي صاغت تجربته الأدبية، وفيما يلي أهم محطات حياته. مولد أبي الطيب المتنبي ونسبه وُلد المتنبي في الكوفة سنة ثلاث وثلاثمائةً في منطقةٍ تُسمى كِندة، وقد اختلف المؤرخون في نسبه، فمنهم من نسبه إلى قبيلة كندة وهي إحدى أشهر قبائل العرب، ومنهم من نسبه إلى حيّ كِندة في الكوفة مكان ولادته، وأنكروا نسبه إلى قبيلة كِندة، كما واختلف المؤرخون أيضاً في اسم والده، فمنهم من قال أنّ اسم المتنبي هو أحمد بن الحسين بن مرّة بن عبد الجبار الجعفي، ومنهم من قال أن اسمه أحمد بن محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي.[٥] وأخبر آخرون أن اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي، وقال البعض أن والده كان شيخاً يسمى عبدان، ولم يأتِ المتنبي على ذكر والده في ديوانه أبداً، فلم يمدحه أو يفتخر به، ولم يَرْثه حين مات، حتى يخالُ البعض أنّه لا يعرفه، ولم يستطع المؤرخون معرفة سبب تجاهل المتنبي لذكر والده في شعره، فهل كان السبب عدم معرفته له؟ أم أنّ أباه كان رجلاً بسيطاً فلم يكن له قيمةً تُذكر؟[٥] أمّا أمّه فلا يُعرف عنها اسمها ولا أصلها ولا من أي البلاد هي، إلا أنّه من المعروف أنّه بعد موتها كفلته أمها التي هي جدّته، وعطفت عليه وأحبته حباً كبيراً، وربته إلى أن اشتد عوده وأصبح رجلاً، ولم يُعرف اسمها أيضاً ولا اسم أبيها، لكنّ بعض الرواة ذكروا أنّها كانت من الكوفة وأنها تُنسب إلى بني همدان، وأنّها كانت امرأةً صالحةً، كما أنّ المتنبي لم يذكر عن نسبها شيئاً في ديوانه، لكنّه أشار إلى أنّ نسبها كان كريماً في هذا البيت الذي رثاها فيه حين ماتت فقال:[٦] لَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا تعليم أبي الطيب المتنبي التحق المتنبي بكُتَّابٍ كان فيه أبناء أشراف العلويين لتلقّي علوم اللغة العربية من شعر، ونحو، وبلاغة، وكان إضافةً إلى ذلك يقضي معظم أوقاته ملازماً للورّاقين لكي يقرأ في كتبهم فاكتسب معظم علمه من ذلك، وقد عُرف عن المتنبي حبه الشديد للعلم والأدب، كما أنّه تمتع منذ صغره بالذكاءِ وقوة الحفظٍ، وقد أخبر أحد الرواة قصةً طريفةً عن قوة حفظه في صباه، وهي أنّ أحد الوراقين أخبر أنّ أحدهم جاء ليبيع كتاباً يحوي نحو ثلاثين صفحة.[٧] وكان المتنبي عنده حينها، فأخذ الكتاب من الرجل وصار يقلّب صفحاته ويطيل النظر فيها، فقال له الرجل: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة فهذا بعيدٌ عليك، فقال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطكيه، فقال الوراق: فامسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كُمِّه ومضى لشأنه.[٧] أقام المتنبي في البادية أكثر من سنتين عاشر فيهما الأعراب وأفاد منهم، حيث اكتسب الفصاحةَ وتمكّن من اللغة العربية بشكلٍ كبيرٍ، ومن الجدير بالذكر أنّ المتنبي كان كثير الرواية جيد النقد، وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطّلعين على غريبها وحوشيِِّها، كما أنّه لم يكتفِ بما حصل عليه من علمٍ من مصاحبة الأعراب في البادية، ومن ملازمة الورّاقين، ولا ممّا تعلّمه في كتّاب الكوفة، بل اتصل أيضاً بالعلماء وسافر إليهم وصاحبهم، وتعلّم على أيديهم، ومن هؤلاء العلماء: السكّري، ونفطّويه، وأبي بكر محمد بن دريد، وأبي القاسم عمر بن سيف البغداديّ، وأبي عمران موسى.[٨] رحلات أبي الطيب المتنبي رحلة المتنبي إلى بغداد جاء في الصبح المنّبي أنّ أبا الطيب قال: “وردت في صبايا من الكوفة إلى بغداد”، إلّا أنّه لم يحدد تاريخ ذلك الرحيل، كما أنّ المؤرخين لم يذكروا هذا التاريخ أيضاً، لكن من الراجح أن يكون قد رحل إليها سنة تسع عشرة وثلاثمائة.[٩] رحلة المتنبي إلى بلاد الشام ولقائه بسيف الدولة ذكر المعرّي في رسالة الغفران أنّ أبا الطيب كان قد رحل إلى بلاد الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ويقال إنّه كان في الثامنة عشرة من عمره آنذاك، وكان يرنو إلى المجد والعلياء، وهذا ما جعله يقيم في الشام وينظم شعر المديح، وكانت حينها قد قامت في المنطقة حروب عدّة بسبب الصراع على السلطة، انتهت بسيطرة سيف الدولة الحمدانيّ على حلب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وبقاء دمشق تحت سيطرة الإخشيدييّن.[٩] ممّا دفع المتنبي حينها لمدح بعض الرجال الذين حاربوا في تلك المعارك أمثال: مساور بن محمد الرومي، والحسين ابن عبد الله بن طغج، وطاهر العلوي، إضافةً إلى مدحه لبعض رؤساء العرب الذين التقاهم في طريقه إلى الشام لا سيما حين أقام في منبج، أمثال سعيد عبد الله بن كلاب المنبجي، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المتنبي كان قد سُجن في الشام أيام شبابه- كما سبق الذكر- عند ذكر أسباب تسميته بالمتنبي، وقد أجمع الرُّواة على ذلك، كما أنّ المتنبي نفسّه أخبر عن ذلك في شعره، إلا أنّه كان قد اختلف مع رواة سيرته في أسباب السجن، إضافةً إلى اختلاف الرواة فيما بينهم.[٩] تنقّل المتنبي في بلاد الشام مادحاً أمراءها، وكان في مدحه لهم يحثّهم على التصدي لأعداء العرب المتربّصين بالدولة من الخارج والداخل، لا سيّما الروم الذين كانوا يشنّون الغارات الحربية على الجيوش العربية، فأقام المتنبي عند بدر بن عمار والي طبريّا فترةً من الزمن امتدت من سنة 328هـ إلى أوائل سنة 333هـ، ثم اتّصل بعد ذلك بأبي العشائر الحمدانيّ والي أنطاكية، والذي يتبع للأمير سيف الدولة الحمدانيّ، ومنه اتصل بسيف الدولة الحمداني.[٣] فشعر المتنبي حينها أنّه عثر على ضالّته، إذ وجد في سيف الدولة صفات القائد التي كان يَنشُدها في الحاكم العربيّ، فقد كان سيف الدولة فارساً هُماماً، وكان أكثر بني حمدان فِطنةً وذكاءً، وحباً وإخلاصاً للعرب، وغيرةً على دينهم، فكان يسعى إلى توحيد العرب وإعادة مجدهم السليب وسلطتهم المُنتزعة، وكان أثناء ذلك يتصدّى لهجمات الروم المتكررة على العرب، فوضع المتنبي آماله في استعادة عزّة العرب بين يديه، ونشأت بين الشاعر والأميرعلاقة ودٍ ومحبةٍ قلّ مثيلها، فعاش المتنبي في كنف سيف الدولة أزهى أيام حياته، ونظم فيه الشعر الذي خلّد ذكره على مر العصور.[٣] أقام المتنبي عند سيف الدولة تسع سنين انقطع فيها لمدحه، وكان أول ما قاله في مدحه في شهر جمادى الأولى سنة 373هـ، حيث مدحه بقصيدةٍ ميميةٍ مطلعها:[١٠] وَفاؤكُما كالرَّبْع أشْجاهُ طاسمه بأنْ تُسعِدا والدّمْعُ أشفاهُ ساجِمُهْ وكانت آخر مرةٍ أنشده مادحاً في سنة 345هـ، في قصيدةٍ ميميةٍ مطلعها:[١٠] عُقْبَى اليَمينِ على عُقبَى الوَغَى ندمُ ماذا يزيدُكَ في إقدامِكَ القَسَمُ كما أنشده أيضاً في نفس العام مودّعاً إيّاه في قصيدةٍ استهلّها قائلاً:[١٠] أيَا رَامِياً يُصْمي فُؤادَ مَرَامِهِ تُرَبّي عِداهُ رِيشَهَا لسِهامِهِ